الجمعة، 13 مايو 2011

بَقينا في وطنِنا رغمَ أنفِهم

كانت في التّاسعة عشر مِن عمرها عندما أخذوها لأول مرّة إلى مركزِ الشّرطةِ للتّحقيقِ معها حولَ أمورٍ تخصُّ "أمنَ الدّولةِ"!

تذكرُ ذلكَ اليومَ جيّداً، وكأنّهُ حدثَ بالأمسِ القريبِ. لَم تكنْ في البيتِ، فقد كانتْ في حديقةٍ قريبةٍ هي وأختها ابنةُ السّنتيْنِ آنذاكَ، وكانَ والدها قد غادرَ إلى مدينةِ رامَ الله الصّامدةَ، لنقْلِ جدّتها (والدةِ أمّها) إلى بيتِها.

جدّتها كانتْ عايشتِ النّكبةَ بِحذافيرِها وتفاصيلِها، غادرتِ اللّدَّ مشياً على الأقدامِ حتى رامَ الله في سنة (1948)، ولا زالتْ حتى اليوم تَحتفظُ بِمفتاحِ بيتِها، و"كواشين" البيت وأراضي العائلةِ، والّتي استولى عليها "القادمونَ الجددُ" مِن أوروبا، في حين أُجبرتْ مئاتُ العائلاتِ العربيّةِ على مغادرةِ اللّدِّ تحتَ تَهديدِ السّلاحِ.

كانَ قد وصلَ إلى بيتِها سبعةٌ مِن عناصرِ الشّرطةِ وثلاثةُ جنودٍ، وكانوا يَطرقونَ بابَ البيتِ بصورةٍ جنونيّةٍ مُرعبةٍ، فبدأتْ أمّها تُولولُ وتصرخُ: ماذا حدث؟

قال لها أحدُهم: لقد أتيْنا من أجلِ ابنتك.

اجتمعَ الجيرانُ على صوت أمّها التي صرختْ في وجهها: ماذا فعلتِ؟ ماذا يريدونَ منك؟ وكانت تتأبّطُ صمتها.

أخرجَ أحدُ رجالِ الشّرطةِ أمراً باصطحابها فوراً إلى المركز.

سألتْهُ: لماذا؟
قال: بسببِ مجموعتكِ الشعريّة "رسالةٌ إلى الطّغاةِ"، وسفَرِكِ الدّائمِ إلى رامَ الله، وبير زيت، وبيت جالا.

هدّأتْ مِن رَوْعِ أمّها، وأخبرَتْها أنّهُ مجرّدُ استجوابٍ، وخرجتْ معهم إلى المركزِ.

جلسَ معها ثلاثةُ محقّقينَ؛ اثنانِ منهم عربيّانِ، ومحقّقةٌ متدرّبةٌ.

قال واحدٌ من المُحقّقين: نَحنُ نعرفُ كلَّ شيءٍ عنكِ، ونعرفُ كلَّ تَحرّكاتِكِ، ولا يليقُ بكِ ما تفعلينَ، فأنتِ مسيحيّةٌ ولستِ عربيّةٌ.. اُكتبي شعراً عن الحبِّ، وعِدينا أنّكِ لن تُشاركي ولن تشتركي بأيِّ نشاطٍ سياسيٍّ.

- أوّلاً أنا عربيّةٌ فلسطينيّةٌ، أحملُ الجنسيّةَ "الإسرائيليّةَ" لأنّها فُرضتْ عليَّ، وأنا سأستمرُّ في الطّريقِ.. ألستم تدّعونَ أنَّ هذهِ الدّولةَ ديمقراطيّةٌ؟ ألا يَحقُّ لي التّعبيرُ عن رأيي؟ أم أنّها ديمقراطيّةٌ تَخصُّ الصّهاينةَ فقط؟
- اصمتي يا وقحة.. صرختِ المحقّقةُ.

لكنّها لَم تصمتْ.. عندها فوجئتْ بهم يهدّدونها بعائلتها: إنْ لَم تفعلي هكذا، سيُهدم بيتُكم، ويُطرَدُ والدُكَ مِن عملِهِ، سنقتلُ أحدُ أقربائِكِ...

للحقيقةِ، لَم تخَفْ، ولم ترهبْ، فقد علمتْ أنَّ هذهِ سياستُهم للتّخويفِ، وكسرِ المعنويّاتِ، فابتسمتْ وقالت:
افعلوا ما شئتُم، فأنا لا أخافُ سوى اللهَ.

عندَها تغيّرَ الأسلوبُ معها، وقامتِ المحقّقةُ بصفعها والبصقِ عليها، فالتزمتِ الصّمتَ. وعندَما طُلبَ منها أن توقّعَ على ورقٍ مكتوبٍ رفضتْ، وقالت:
هنالكَ قوانينٌ دوليّةٌ.. افعلوا بي ما شئتم، فلن أوقّعَ على شيء.

تركوها نصفَ ساعةٍ، وتبدّلَ المحقّقونَ ليحُلَّ محلّهُم محقّقٌ يتدلّى مِن صدرِهِ صليبٌ كبيرٌ، عرَضَ عليها فنجانَ قهوةٍ فرفضتْ، وعرضَ أمامها تفاصيلَ دقيقةً عن أسرتها وحتّى عن أجدادها قائلاً: من الأفضلِ لكِ أن تتعاوني معنا.. أنتِ مسيحيّةٌ مثلي، وأنا خائفٌ عليكِ.

لَم تدرِ لماذا في تلكَ السّاعةِ شعرتْ أنّها تريدُ أن تصفعَهُ وتقولَ لهُ:
أنتَ حقيرٌ وخائنٌ، والمسيحُ والمسيحيّةُ مِن أمثالِكَ بريئانِ.

تَماسكتْ لبعضِ الدّقائقِ، ولَم تُعِرْهُ اهتماماً، فهدّدها قائلاً:
الذّبابُ الأزرقُ لن يعرفَ لكِ مكاناً، سأشوّهُ صورتَكِ، سأقضي عليكِ، سأغتصبُكِ، سأجعلُكِ مدمنةً على المخدّرات.

فجأةً، حاولَ رفْعَ قميصها، فدفعْتُهُ، وبصقْتُ عليهِ.

أكثرَ مِن خَمسِ ساعاتٍ مكثتْ هناكَ، وخرجتْ بقوّةٍ وتصميمٍ أكبرَ، وتيقّنتْ أنّهم لا يتمكّنونَ إلاّ مِن الجبناءِ.

من (رسالة إلى الطغاة - مجموعتي الشعرية الأولى التي صدرت عام 1995).

rania.marjieh@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق