الجمعة، 13 مايو 2011

يا شعبي

(1)

يا شعبي
هل ذقت سلاما
أم جوع
ومر
ودماء
أن أكتب لك أشعارا
لن ينهي
جوعك
وحصارك
أن أهتف باسمك فلسطين
لن يعيد بسمة اللاجئين
يا شعبي
ليتني
رصاصة
أو قنبلة
أو خنجر
أو مقلاع
لقضيت بنشوة
على كل صالبيك
والمرتزقة
وجلاديك.

يا شعبي
هل عادو وصلبوك
وعلى خشبة عارهم علقوك
دعني أرفع أحمالك
وأقبل بحب دمائك
وأترحم على ثوارك
لن يجرح شوكهم
بعد اليوم أقدامي
حتى وإن سرت حافية.

(2)

يا غزة هاشم
يا حرة
سنعتقك من العبودية
وندرس الخونة درساً عن الوطنية
لست وحيدة
يا سيدة
عذراء
حلوة
طاهرة
لوذي بحضني وابتسمي
سأروي ترابك بدمي
وأطهرك
من النفاق
والزيف
سأستر عارك ببري
وأعيد لك طهر الضمير
سأرد لك
بهجة خلاصك
لن يستبيحوك
بعد اليوم
يا مناضلة
حرة
أبية
سأغسل
كل ذرة فيك
بدماء
عربية زكية.

من أجل "شيري"

ما زالتْ ترقصُ حولَ دائرةِ الموتِ، غيرَ مكترثةٍ بألمِها وضيقِها، وبينَ وهلةٍ ووهلةٍ ترنّمُ بعضَ التّرانيمِ الحزينةِ الّتي كتبَتْها بِجِراحِها وبدماءِ زوجِها الشّهيدِ.. هي تكتبُ وتُسجّلُ دونَ هوادةٍ أو راحةٍ مذكّراتِها، ويوماً ما ستخرجُ عن صمتها ويأسها، وستحطّمُ الحزنَ الّذي بداخلها والّذي يُقيّدُها.

هي طفلةٌ.. لكنّها، أيضاً، أمٌّ ثكلى لَم تتجاوزِ السّادسةَ عشرة، إلاّ أنّها تكتبُ وتردّدُ أن لا ربيعَ في حياتِها.
قُتلَ زوجُها وطفلُها، أو بالأحرى استشهدا؛ قتلَهما جنديٌّ حينَ فرّغَ الرّصاصَ في صدرَيْهِما بتأييدٍ كاملٍ مِن كافّةِ جنودِ العارِ.

ألَم يكنْ للجنودِ شركاءُ؟
آهٍ.. آهٍ.. أخ يا أخي!
في بيتِنا عملاءُ وأنذالٌ، وإلاّ فكيفَ تفسّرونَ وصولَهم إلى بيتهِ؟
كيفَ وصلوا للنّفقِ ورشَوْهُ بنشوةٍ رغمَ أنّهُ لَم يُقاوم؟
كيفَ يقاومُ وطفلُنا ابنُ الشّهرِ بينَ ذراعيهِ؟
هل سِلْفي عميلٌ للموسادِ؟ نعم. نعم هو كذلك، وإلاّ فكيفَ وصلوا إليهِ؟ وترى هل قبضَ الثّمن؟
ولكن لماذا وشى؟ هل يُعقلُ أن يشي الأخُ بأخيهِ؟
أيكونُ الفقرُ والحصارُ السّبب؟ لكن "ليسَ بالخبزِ وحدَهُ يَحيا الإنسانُ".

السّببُ.. السّببُ.. أنّهُ على علاقةٍ بالجنديّةِ "الإسرائيليّةِ" "شيري".
لكنّهم لا يُعطونَ الشّرفاءَ تصريحاً لدخولِ "إسرائيل" والعملَ فيها.
حبُّهُ لـ"شيري" أفقدَهُ الصّوابَ والتّفكيرَ؛ إنّهُ يُريدُ الإقامةَ معها بأيِّ ثَمنٍ!
هو لا يَرُدُّ لها طلباً؛ أرادوا أخاهُ، وسلّمهم إيّاهُ، بعدَ أن ضمِنَ أنّهُ سينتقلُ للإقامةِ و"الاستيطانِ" في أحضانِ "شيري" في "تل أبيب"!

rania.marjieh@gmail.com

الرسالة الأخيرة

سوف أرحل مع بزوغ الفجر فضميني لصدرك وإياك أن تبكيني
وإن رويت الأرض بدمي فأعلمي أني أفدي بلادي وأفديكي
أنا يا أمي إن رحلت سأعيش بشجر الزيتون وبآذان المساجد وأجراس الكنائس
ولوز اللطرون وبرتقال يافا
أنا يا أمي ماضية على درب من سبقوني
هناك حياة بعد الموت وبعد الموت هناك رجاء
... أرى شعبي يهان ويصلب باستمرار
والأطفال والشيوخ جياعٌ جياع... فهل ترضي أن أعيش ذليلة على أرضي؟
إن المقاومة درب اخترته بكامل إرادتي وإيماني وبتأييد من إلهي.. ذاك الرب الذي دعاني للانتقام لشعبي المسلوب من أبسط حقوقه الإنسانية

فآه على شعبي آه..
سلي الله يا أمي فهو مع الجهاد والمقاومة
وهو لا يرضى أن نتهاون ونتكاسل ونراوغ ونشارك المأجورين بالمساومة والهرولة والأسرلة والتصهين
انا بالدم سأفديك وبدمي سأدفيك وبه أيضا سأرويك يا شمس نهاري يا أمي يا وطناً لا ينحني ولا يرضى بالذل

سجل يا قلمي سجل أني عربية حرة
مسلمة ومسيحية ودرزية وشيعية وسنية ومارونية وكاثوليكية وأرمنية وأرثوذكسية
سجل أنا كل هذا وأضف أنني قومية وشيوعية ويسارية وأيضاً فلسطينية وجولانية وسورية وعراقية وإيرانية..
ومصرية ولبنانية

أنا عربية
يسكنني عبد الناصر وجيفارا وكمال جنبلاط وتوفيق زياد وجورج حبش وأنتمي لعيسى وأحمد وشعيب
فاسمي بالدم مكتوب ومسجل على أرضي
سأبقى أقاوم ولن أنكس رأسي أو أساوم
لأني أعرف أن معي إنجلران، واني أحمل صليباً في قلبي وهلالاً (1)
وان عيسى وأحمد وشعيب الآن معاً متحدون بسابع سماء
هم من علمونا أن الاستشهاد من أعظم التضحيات وان المحبة تتوجها المقاومة فالاستشهاد
فلا للتراجع والمساومة والانحناء.

rania.marjieh@gmail.com

الهامش:
1- إنجلران: أي اتحاد القران والإنجيل.

بَقينا في وطنِنا رغمَ أنفِهم

كانت في التّاسعة عشر مِن عمرها عندما أخذوها لأول مرّة إلى مركزِ الشّرطةِ للتّحقيقِ معها حولَ أمورٍ تخصُّ "أمنَ الدّولةِ"!

تذكرُ ذلكَ اليومَ جيّداً، وكأنّهُ حدثَ بالأمسِ القريبِ. لَم تكنْ في البيتِ، فقد كانتْ في حديقةٍ قريبةٍ هي وأختها ابنةُ السّنتيْنِ آنذاكَ، وكانَ والدها قد غادرَ إلى مدينةِ رامَ الله الصّامدةَ، لنقْلِ جدّتها (والدةِ أمّها) إلى بيتِها.

جدّتها كانتْ عايشتِ النّكبةَ بِحذافيرِها وتفاصيلِها، غادرتِ اللّدَّ مشياً على الأقدامِ حتى رامَ الله في سنة (1948)، ولا زالتْ حتى اليوم تَحتفظُ بِمفتاحِ بيتِها، و"كواشين" البيت وأراضي العائلةِ، والّتي استولى عليها "القادمونَ الجددُ" مِن أوروبا، في حين أُجبرتْ مئاتُ العائلاتِ العربيّةِ على مغادرةِ اللّدِّ تحتَ تَهديدِ السّلاحِ.

كانَ قد وصلَ إلى بيتِها سبعةٌ مِن عناصرِ الشّرطةِ وثلاثةُ جنودٍ، وكانوا يَطرقونَ بابَ البيتِ بصورةٍ جنونيّةٍ مُرعبةٍ، فبدأتْ أمّها تُولولُ وتصرخُ: ماذا حدث؟

قال لها أحدُهم: لقد أتيْنا من أجلِ ابنتك.

اجتمعَ الجيرانُ على صوت أمّها التي صرختْ في وجهها: ماذا فعلتِ؟ ماذا يريدونَ منك؟ وكانت تتأبّطُ صمتها.

أخرجَ أحدُ رجالِ الشّرطةِ أمراً باصطحابها فوراً إلى المركز.

سألتْهُ: لماذا؟
قال: بسببِ مجموعتكِ الشعريّة "رسالةٌ إلى الطّغاةِ"، وسفَرِكِ الدّائمِ إلى رامَ الله، وبير زيت، وبيت جالا.

هدّأتْ مِن رَوْعِ أمّها، وأخبرَتْها أنّهُ مجرّدُ استجوابٍ، وخرجتْ معهم إلى المركزِ.

جلسَ معها ثلاثةُ محقّقينَ؛ اثنانِ منهم عربيّانِ، ومحقّقةٌ متدرّبةٌ.

قال واحدٌ من المُحقّقين: نَحنُ نعرفُ كلَّ شيءٍ عنكِ، ونعرفُ كلَّ تَحرّكاتِكِ، ولا يليقُ بكِ ما تفعلينَ، فأنتِ مسيحيّةٌ ولستِ عربيّةٌ.. اُكتبي شعراً عن الحبِّ، وعِدينا أنّكِ لن تُشاركي ولن تشتركي بأيِّ نشاطٍ سياسيٍّ.

- أوّلاً أنا عربيّةٌ فلسطينيّةٌ، أحملُ الجنسيّةَ "الإسرائيليّةَ" لأنّها فُرضتْ عليَّ، وأنا سأستمرُّ في الطّريقِ.. ألستم تدّعونَ أنَّ هذهِ الدّولةَ ديمقراطيّةٌ؟ ألا يَحقُّ لي التّعبيرُ عن رأيي؟ أم أنّها ديمقراطيّةٌ تَخصُّ الصّهاينةَ فقط؟
- اصمتي يا وقحة.. صرختِ المحقّقةُ.

لكنّها لَم تصمتْ.. عندها فوجئتْ بهم يهدّدونها بعائلتها: إنْ لَم تفعلي هكذا، سيُهدم بيتُكم، ويُطرَدُ والدُكَ مِن عملِهِ، سنقتلُ أحدُ أقربائِكِ...

للحقيقةِ، لَم تخَفْ، ولم ترهبْ، فقد علمتْ أنَّ هذهِ سياستُهم للتّخويفِ، وكسرِ المعنويّاتِ، فابتسمتْ وقالت:
افعلوا ما شئتُم، فأنا لا أخافُ سوى اللهَ.

عندَها تغيّرَ الأسلوبُ معها، وقامتِ المحقّقةُ بصفعها والبصقِ عليها، فالتزمتِ الصّمتَ. وعندَما طُلبَ منها أن توقّعَ على ورقٍ مكتوبٍ رفضتْ، وقالت:
هنالكَ قوانينٌ دوليّةٌ.. افعلوا بي ما شئتم، فلن أوقّعَ على شيء.

تركوها نصفَ ساعةٍ، وتبدّلَ المحقّقونَ ليحُلَّ محلّهُم محقّقٌ يتدلّى مِن صدرِهِ صليبٌ كبيرٌ، عرَضَ عليها فنجانَ قهوةٍ فرفضتْ، وعرضَ أمامها تفاصيلَ دقيقةً عن أسرتها وحتّى عن أجدادها قائلاً: من الأفضلِ لكِ أن تتعاوني معنا.. أنتِ مسيحيّةٌ مثلي، وأنا خائفٌ عليكِ.

لَم تدرِ لماذا في تلكَ السّاعةِ شعرتْ أنّها تريدُ أن تصفعَهُ وتقولَ لهُ:
أنتَ حقيرٌ وخائنٌ، والمسيحُ والمسيحيّةُ مِن أمثالِكَ بريئانِ.

تَماسكتْ لبعضِ الدّقائقِ، ولَم تُعِرْهُ اهتماماً، فهدّدها قائلاً:
الذّبابُ الأزرقُ لن يعرفَ لكِ مكاناً، سأشوّهُ صورتَكِ، سأقضي عليكِ، سأغتصبُكِ، سأجعلُكِ مدمنةً على المخدّرات.

فجأةً، حاولَ رفْعَ قميصها، فدفعْتُهُ، وبصقْتُ عليهِ.

أكثرَ مِن خَمسِ ساعاتٍ مكثتْ هناكَ، وخرجتْ بقوّةٍ وتصميمٍ أكبرَ، وتيقّنتْ أنّهم لا يتمكّنونَ إلاّ مِن الجبناءِ.

من (رسالة إلى الطغاة - مجموعتي الشعرية الأولى التي صدرت عام 1995).

rania.marjieh@gmail.com

نماذج شبابية

هذه العتمة التي تعذب روحي ستنجلي عما قريب، ولست موهومة بأن الألم سيمضي وسيغادرني عما قريب. عما قريب.. أعترف أن قلبي كصخر ثابت، يستطيع أن يقف أمام كل قوى الظلمة، في وجه الجهل والشر، ويهزمهم بإيمانه الممزوج بالحب والعلم والنور، الذي يفسره البعض بالسذاجة والانهزام والهروب من المعركة. أحيانا.. أفضل الصمت وتجاهل شتيمة الأغبياء والجبناء، على الانجراف فيما لا أحب.

هذا الصباح..
كنت أترقب قدوم صديقتي، لنصلي معا صلاتنا العجيبة الغريبة التي لا تروق لهم. لكنها لم تأتي، تركتني وحيدة أصلي معهم. كان طبيعي جدا أن يتهموني بأني أُحلق بعيدا عن أرض الواقع.. وكان طبيعي جدا أن يشتموني بسهام عيونهم، ويتهامسون فيما بينهم من هذه الغريبة العجيبة، التي تحثنا على الحب والصدق والإبداع والإيمان، ونحن أبناء الذل والفقر والقهر والجريمة والمخدرات. مَن هذه التي لا هموم لها ولا مشاكل، إلاّ مشكلة الوزن الزائد؟ قالت يارا: هل سبق لك وسرقتِ؟ ولم تنتظر جوابي، وأضافت بعصبية وعنجهية: - أنت لم تسرقي يوما ولن تسرقي أبدا، أما أنا فأسرق وسأسرق، وسأظل هكذا للأبد، لأن الكل في البيت يشجعني على السرقة. ثم صمتت وتابعت: - بدأت أسرق وأنا في الصف الأول، والآن أنا في الصف الثاني عشر ولا زلت أسرق وأسرق. هل تعرفين لماذا؟ لأن أمي تشجعني وتحثني على ذلك.. عندما كنت في الصف الأول سرقت من بيت الجارة خاتم ذهب وأعطيته لأمي، وأمي بدورها قبلتني وقالت لي، كلما استطعت أن تسرقي شيئا لا تترددي، وسأحبك أكثر وأكثر.

تتالت سرقاتي

وهكذا تتالت سرقاتي حتى أصبحت مدمنة على السرقة وأحترفها.قال احمد: - كنت في الصف الثامن عندما تم قتل أمي بدم بارد، وأشاعوا أنها زانية تستحق القتل، لأنها أساءت إلى شرف العائلة. كل ما أشاعوه عنها كان كذبا وافتراء. كل جريمتها أنها أرادت الانفصال عن والدي العنيف تاجر الأسلحة والمخدرات، لكن بعائلتنا لا يجوز للفتاة أو المرأة أي شيء، وليس لها أي حق، فهي نكرة، ضلع ناقص، ناقصة عقل ودين. وبعد عامين قتلت أختي، كانت آنذاك في الصف العاشر، وقالوا أيضا شرف العائلة! كانت جريمتها أنها رفضت الزواج من ابن عمها، لأنها أرادت أن تستمر بالدراسة. طز بهكذا عائلة وألف طز! بعد هذا وجدت نفسي أنزلق بداء السكر والمخدرات، لأنسى ولأنسى.. فكم أنا بحاجة لنعمة النسيان! وعندنا بالعائلة يحق للشاب ما لا يحق للفتاة! وأخيرا.. هذه نماذج بسيطة لشباب وفتيات من الرملة واللد، يعيشون ويتنفسون الضياع مع انعدام أية مؤسسة أو جمعية تتبناهم وتساندهم، وتوفر لهم علاجا مناسبا وحياة أفضل!

أنت أمي أنت ملاكي

كانت بالخريف الثامن عشر من عمر الوجع، عندما قررت مغادرة قريتها الغير معترف بها، الواقعة في النقب، بعد أن ادخرت مبلغا وقدرة ألف شاقلا جديد من مصروفها الشخصي، للانطلاق إلى يافا عروس البحر المتوسط، بعيدا عن الذئاب الذين جردوها من طفولتها، براءتها وعنفوانها، بعد أن شاخت قبل أوانها، يافا والشارع سيكونان أرحم عليها من زوج والدتها وأبناءه الذين كانوا يعتدون عليها ويمارسون شذوذهم بعنف وشراسة لا مثيل لهما.

كانت أمها سلبية جدا، إذ تجردت من كل معاني الأمومة السامية والإنسانية المطلقة. كانت تعرف كل ما يحدث بكافة التفاصيل المقززة، ومع هذا، لم تحاول ولو مرة إيقاف المهزلة. صمتت صمت النعاج في حين كانت تذبح ابنتها روحيا يوما بعد يوم.
كان جل همها يتمحور حول كيفية الحفاظ على اسم عائلتهم، سمعتهم، ومظهرهم أمام الناس.
أخيرا وصلت لبحر يافا، كان والدها يصطحبها كل صيف إلي بحر يافا، آخر مرة احتضنت بها بحر يافا كانت في ربيعها الثامن، وبعد أن رحل والدها اختارت أمها أن تتزوج مرة أخرى.

ومنذ ذلك اليوم وبرد الشوق ليافا يصفعها فترتعد الذاكرة.
تأملت يافا، مآذنها، أجراس كنائسها، بحرها، واجتاحتها جيوش الذاكرة. استعادت صور الطفولة، رائحة عرق والدها وهم يبنيان معا مجسمات من الرمل. تنهدت بصوت عال لفت انتباه رجل وسيدة يجلسان على مقعد مقابل لذاكرتها. لا تعرف كيف خانتها دموعها حينها، بدأت تبكي بحرقة شديدة، وتنادي أبي حبيبي لماذا تركتني ورحلت؟!
تمرد على الموت وانتصر عليه، وعد للحياة لتحميني من الضياع والعذاب لتنتقم لي، فقد قتلتني الذئاب اللئيمة. آه يا أبي كم أحتاجك الآن، إني قادمة إليك قادمة إليك لا محال...

فجأة، شعرت بيد تربت عليها من الخلف، ابتسمت وتساءلت بسرها هل عاد أبي إلى الحياة؟!
أما زالت المعجزات تتحقق؟!
التفتت إلى الخلف فخاب ظنها، إذ وجدت نفسها أمام رجل وسيّدة غطى شعرهن الشيب.
شعرت بدوار شديد وبدأت ترتجف كأنها ورقة في مهب الريح. استجمعت قواها وقالت: من انتم؟ وأين كنتم؟ ظننت أني الوحيدة هنا فنحن في فصل الشتاء.
أنا فاطمة يا حبيبتي وهذا زوجي أحمد، نحن نحب البحر كل يوم.
قالت بصوت كصدى قادم من بين جدران الزمان: أنا زينة، أنهيت المدرسة قبل شهور، وجئت اليوم هنا لأبحث عن عمل شريف. إلا أني وجدت نفسي على شاطئ البحر.
ابتسم أحمد وقال: أنا أبحث عن موظفة، أي سكرتيرة لتساعدنا وزوجتي في عيادة الأسنان فما رأيك بالعمل معنا؟
حقا يا عمي؟! قالت زينة بلهفة غريق تعثر بغصن.
وتدخلت فاطمة حقا يا حبيبتي فنحن أهلك من اليوم.
- لكنكم لا تعرفونني.
- نعرف انك هدية السماء لنا، فنحن لم نرزق بأطفال رغم انه مر على زواجنا أكثر من عشرين عاما.
ابتسمت زينة وقالت: وأنا من اليوم لن أعود يتيمة أكثر، فأنت أبي وأنت أمي.

ودارت السنوات وتخرجت زينة من كلية طب الأسنان بتفوق، وبعد عام من تخرجها رزق الله السيد أحمد والسيدة فاطمة توأما جميلا. حرصت زينة كل الحرص على مساعدة والدتها الحقيقية على تربية أخيها وأختها، وبعد مرور خمس سنوات، ماتت فاطمة وتركت حزنا وحسرة شديدان في نفس زينة وزوجها، وأصرّت زينة أن تربي إخوتها بنفسها وتعتني بوالدها ورفضت مبدأ الزواج،
ولا تزال زينة لغاية اليوم تعتني بإخوتها الذين يدرسون حاليا بالمرحلة الإعدادية وهم من المتفوقين، وتدير عيادة أبيها البار وتحرص دائما على زيارة ضريح والدتها حيث ترقد بسلام لتقرأ لها الفاتحة وتقول لها:
أنت أمي أنت ملاكي وليست الأخرى التي ولدتني وتركتني للذئاب.

إنهم يبحثون عن خلود!

ما زال صدى صوتها يرن في أذن أمها وهي تقول:
- سأفضحه، سأعريه، سأكشف حقيقته.
سألت أختها ابنة العاشرة:
- ترى أين تكون خلود الآن؟ وارتفع صوت أحدهم ليقول:
- سافرت خلود ولن تعود.

مرّ أسبوع.. أسبوعان.. شهر.. ولا أحد يعرف شيئا عن خلود، كأن الأرض انشقت وابتلعتها. وُجدت خلود أخيرا في إحدى البيارات بمنديلها الأسود المزركش، وبثوب الصلاة الملطخ بدمها دون حراك!
إنها قضية شرف... سارع الناطق الرسمي للشرطة بتعميم بيان للصحف العبرية والعربية، فالفتاة عزباء لم يسبق لها الارتباط، وتبين من الفحوصات التي أجريت لها أنها كانت حاملا بشهرها الثالث. بعد مضي أسبوع تزوجت أختها فاطمة من ابن عمها، وبمباركة كل العائلة، ما عدا والدتها التي اختارت أن تغادر القرية.

بيومين اثنين فقط تمت الخطبة، ثم الزواج. فاطمة ابنة الثامنة عشرة عام يتزوجها علي وعمره اربعة وثلاثين عاما. نعم، إنّه أحقّ بها من غيره، فهي ابنة عمه، وبنت العم لابن العم، وهذا قانون وعرف كبروا عليه ونشؤوا عليه! لكن؛ ابن عمها كان ظالما، كان يعاملها بقسوة ويهددها باستمرار، إلى أن قررت أن تهرب من القرية.

وفعلا، هربت لبيت جدها والد أمها، حيث كانت أمها تمكث أيضا هناك، وهنالك، ولأول مرة قررت والدتها الخروج من دائرة صمتها.
- انا من قتل خلود، وانا من تسببت بتعاستك يا فاطمة. كان يجب أن أقف لهم بالمرصاد، ولكني كنت سلبية وفضلت الصمت والهرب. لقد قام زوجك باغتصاب أختك وتحت تهديد السلاح، وكتمت أختك السر في صدرها، إلى أن جاء يومًا ليطلب يدها فرفضته، لكنه بدأ يقهقه وقال:
- لا تستطيعين رفضي.. أتنسين ما كان بيننا؟
أجابته:
- أفضل الموت على ان أتزوج من حشرة مثلك.

وعندما اختليت بها وأخبرتني بتفاصيل حادث الاعتداء، وأنا بدوري أخبرت والدك وإخوانك الشباب، جنّ جنونهم، وطلبوا منها أن تتزوج منه فرفضت وقالت:
- لن أتزوج من قاتلي. حاولوا إقناعها، وعندما عجزوا قتلوها. ولكي يُخرسوا ابن عمك دفعوا بك قربانًا له.

طأطأت برأسها وقالت:
- سيكون مصيري كمصير أختي؟ يجب أن نفضحهم.. هناك قانون يستطيع أن يأتي لنا بحقنا.

وتم تقديم شكوى للشرطة من قبل الابنة، والأم ضدهم، ولكن؛ في ذات الليلة تم قتل الأم والابنة، وأغلقت القضية لعدم توفر الأدلة الكافية، أو ربما لأسباب لا يعلمها إلا الشرطة والقضاء!