الثلاثاء، 22 سبتمبر 2009

قراءة أولى في مسرحية هزار سالم شكري


مسرحية "هزار سالم شكري" من تأليف وإخراج "آية شموط" والتي حاولت جاهدة أن تسلّط الضوء على قضية اجتماعية إنسانية حساسة بعض الشيء لدى شريحة واسعة من الفتيات المسلمات الملتزمات بالدين من اللواتي بلغن سن الزواج حول كيفية اختيار شريك الحياة من ناحية وحول الضغط الذي قد يمارس عليهن من الأهل لئلا يفوتهن قطار الزواج.
هزار "هبة رمزي مغاربة" التي تعيش مع زوجها أشرف "هيا ناصر" المحامي العلماني الشهير ابن العائلة العريقة المرموقة المنغمسة في ملذّات الدنيا البعيدة كل البعد عن الدين والصلاة والعادات والتقاليد تعيش معه حياة الذل والمهانة فهي مجرد تحفة بالبيت وجدت لتخدمه وتخدم مزاجه ولا سيما انه لا يترك النارجيلة والكيف ولا يحترم إيمانها إنما يسخر به لأبعد الحدود ويجبرها على الخروج والسهر معه ومع أصدقائه وزوجاتهم حيث لا تخلو سهراتهم من المشروبات الروحية.
الرسالة التي اعتمدها المخرجة والفنانة آية شموط بحكمة النص والإخراج وبأداء فذّ للأدوار التي قدمتها الفنانات على المسرح، نجحت في الدخول إلى عقول وقلوب الحاضرين .. ولم تمنع حركات المحامي أشرف "وهبلنياتها" "هيا ناصر" من إيصال الرسالة، بل أن دورها زاد من إيضاح تخبطات شريحة من شاباتنا اللواتي ينتمون للدين الإسلامي الحنيف، باعتقادهم الساذج أن بعد الزواج ممكن أن تغير الزوجة من طباع زوجها التي نشأ عليها، بلمح البصر.
أمّ هبة "آية طايع" النموذج السيّء للأمهات التي كان كل همّها تزويج ابنتها لأشرف، يكفي انه من عائلة ثرية وانه محامٍ، لا يهم إن كان فاسدا وسيّء السمعة والأخلاق وعرف عشرات الفتيات والنساء.. المهم انه ثري سيدلل ابنتها وسيدفع مهراً كبيراً يليق بابنتها المدرّسة الملتزمة بالدين والتي جاء دورها ليسلّط الضوء على آفة تمييز المجتمع العربي وهي التركيز على الجانب المادي بكل شيء وعدم الاكتراث بالجانب الإنساني والخلقي متناسين أحكام الشرع والدين بما يخص مسألة اختيار شريك الحياة ففي حديث لرسول الله (ص): "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه"
ولا ننسى طبعاً مشاركة الطفلتين ديالا شموط وآية مغاربة الرائعة.
ً اعتقد أن مسرحية هزار سالم شكري هي رسالة تعبّر عن مئات الرسائل التي كتبتها نساء مؤمنات إما بدموعهن وإما بدمائهن حول الحياة القاسية التي تعشْنها مع أزواج غير مؤمنين وبعدين عن الله والتي تنتهي غالباً بالطلاق أو الانهيار العصبي أو الانتحار التي قرأنا العديد منها في الصحف والمجلات إلا أن مسرحية هزار سالم شكري هي ملخص لكل تلك الحكايات والروايات.
مسرحية هزار سالم شكري هي تجربة رائدة فريدة ومميزة تقدمها فرقة صانعات الحياة للمسرح في الناصرة المكونة من فتيات من مرحلة الثانوية وما فوق والتي تعمل جاهدة ليل نهار بكدٍّ وبإصرار على نشر التوعية بين الشابات من خلال أعمال مسرحية هادفة وملتزمة عن طريق طرح القضايا الملحة الهامة وعلاجها. وحقيقة أقول أني استمتعت جداً في العرض الذي قدموه لدرجة ذرف الدموع وقد بتُّ على يقين أن هنالك أملاً في خلق مسرح نسوي ملتزم بفلسطين إن نحن أردنا هذا فعلاً.

السبت، 1 أغسطس 2009

فلسرائيل


التِـآمٌ


تعانقَ الصّليبُ والهلالُ معًا يومَ تكلّلَ حبُّهما بعقدٍ مقدّسٍ للأبدِ.
عرفوا أنَّ حياتَهم لن تكونَ سهلةً، لاسيّما أنّ ذويها متشدّدونَ لديانتِهم، فوالدُها عمدةُ كنيسةِ اللّوثريّينَ.
غادرا البلادَ المقدّسةَ إلى الولاياتِ المتّحدةِ، ومكثا هنالكَ خَمس سنواتٍ ونصف السّنة.
خلالَ تلك الفترةِ رُزقا بطفلةٍ جَميلةٍ، وقرّرا أن يعودا إلى ديارِهم،.
وكبُرتْ البنتُ وبلغتْ عشرينَ عامًا، وأحبّتْ زميلاً لها في الجامعةِ اتّضح لاحقًا أنّهُ ابنُ خالِها، فاعترضَ أعمامُها ضدَّ هذا الحبِّ، لكنَّ والدَها وقفَ لإخوانِهِ الرّجالِ بالمرصادِ قائلا: أنا لن أمانعَ أنْ ترتبطَ ابنتي بهِ.. وباركَ زواجَهم والتأمتِ العائلةُ مِن جديدٍ.

"فلسرائيل"—رانية مرجية



قبلَ سنةٍ مِن تاريخِ هذا اليومِ، أحدُ رفاقي السّابقينَ مِن الجليلِ الأعلى قرّرَ الانتقالَ للعيشِ في تل أبيب بسببِ لقمةِ العيشِ.
رفيقي هذا يَبلغُ الأربعينَ مِن عمرِهِ، ويُدعى فلسطين، وله ابنةٌ تُدعى بيسانُ، وابنٌ يُدعى غسّانُ، وحقيقةً، زوجتُهُ إنسانةٌ رائعةٌ أجدُها أقربَ مِن أختي إلى نفسي.
في بدايةِ الأمرِ سعدتُ جدًّا لقرارِهم، لاسيّما أن تل أبيب قريبةٌ جدًّا مِن الرّملةِ، ولكن بعدَ أيّامٍ مِن قدومِهِ، أصبحتْ فلسطينُ "إسرائيلَ"، وأضحتْ بيسانُ "شيران"، أمّا غسّانُ فباتَ اسمُهُ "شارون".
وفي البدايةِ حسبتُ أنّي أحلمُ، ولَم أستوعبْ ما فعلوه.. لكن "فلسرائيل" أخبرَني أنّهُ مِن أجلِ لقمةِ العيشِ، كانَ لابدَّ لهُ مِن تغييرِ اسمِهِ وأسماءِ أولادِهِ، لاسيّما أنّهم ينظرونَ إلى كلِّ عربيٍّ كإرهابيٍّ.
تَمنّيتُ أن.. تَـ ـنْـ ـشَـ ـقَّ الأرضُ وتـ ـبـ ـتـ ـلـ ـعَـ نـ ـي، قبلَ أن أسمعَ ما سمعتُهُ منه.

الجمعة، 31 يوليو 2009

مسحة الغفران





اشارتْ بسبّابتِها إلى بطنِها المنتفخِ، ونظرتْ إلى الكاهنِ، وقد اغرورقتْ عيناها بالدموع: أنا أحملُ بأحشائي سفّاحًا يا أبت.. جئتُ هنا كي أطلبَ منكَ مسحةَ الغفرانِ قبلَ أن أرحلَ عن هذهِ الدّنيا الآثِمةِ الّتي لم تورثْني إلاّ الدموعَ والآهاتِ والعذابَ. اقتربَ أبُ الاعترافِ مِنَ الفتاةِ الماثلةِ أمامَهُ، وراحَ يُربّتُ على كتفِها مُشجِّعًا: لا تَخافي يا ابنتي فكلُّنا خطاةٌ، وكلُّنا بِحاجةٍ لمغفرةِ اللهِ.- هل سيسامحُني اللهُ إن وضعتُ حدًّا لحياتي، فأنا ما عدتُ أقوى على البقاءِ فيها.- طبعًا لا، فروحُكِ وحياتُكِ مُلكً لله.- لقد تناولتُ عددًا هائلاً مِنَ الأدويةِ منذُ ستِّ ساعاتٍ، وأظنُّهُ الموتَ يقتربُ منّي الآنَ.. أرجوكَ يا أبت، اطلبْ من الرّبِّ أن يغفرَ لي.- لا تَخافي، فأنتِ لن تَموتي، وستعيشين.. سأذهبُ معكِ إلى المشفى، لأنّ اللهَ بحاجةٍ إليكِ وأنتِ على قيدِ الحياةِ، فأنتِ من المُرنِّمينَ لهُ.- لكن أنا... وراحتْ تروي لهُ تفاصيلَ ما حدثَ معَها، فهدّأ مِن روعِها، وقبّلَ جبينَها قائلاً: - أنا سأطلبُ سيّارةَ إسعافٍ للدّيرِ، وسأفسّرُ لهم ما حدثَ، فلا تَخْشَيْ، ولن يعرفَ أحدٌ بالقريةِ بِما حصلَ.وقبلَ أن تصِلَ سيّارةُ الإسعافِ بدقائقَ، كانتِ الفتاةُ قد فارقتِ الحياةَ بينَ أحضانِ أبيها الرّوحيِّ.اعتقلتِ الشّرطةُ الكاهنَ، لاسيّما بعدَ أن استمعوا لشهادةِ الشّهودِ الّتي أكّدتْ أنّها لا تكادُ تتركُ الدّير.استجوبوا الكاهنَ، وفضّلَ الصّمتَ والاستسلامَ لمشيئةِ اللهِ، على أن يُشاركَ الشّرطةَ باعترافاتِها، ويُخالفَ قَسَمَهُ يومَ وَهَبَ حياتَهُ للرّبِّ، فيسيءُ إلى ثوبِ كهنوتِهِ.بعدَ سنينَ فارقَ الكاهنُ الحياةَ، وقد وجدوا في مذكّراتِهِ: إنّ مَن قتلَها وحرقَ روحَها هو الذّئبُ، حيثُ كانَ يغتصبُها تَحتَ تَهديدِ السّلاحِ، وأمُّها أجرمتْ بِحقِّها حينَ لم تُصدّقْ ابنتَها رغمَ مصارحتِها بِحقيقةِ زوجِها، إنّما راحتْ تتّهمُها بالكذبِ والفجورِ، وإنّها تُحاولُ سرقتَهُ مِن بينِ أحضانِها..ز.. و.. جُ.. أُ مِّـ ـهـ ـا!

الخميس، 30 يوليو 2009

قصص قصيرة جدا


مفتاحٌ لا يَصدأ*
ماتتْ، نعم، ماتتْ وتوقّفَ قلبُها عنِ النّبضِ في مشفى رامَ الله، وما صدئَ مفتاحُ بيتِها في اللّدِّ، والّذي لازمَها حتّى وهي ترقدُ في فراشِ الموتِ.كانتْ لآخرِ نبضةٍ من نبضاتِها، ولآخرِ نَفَسٍ مِن أنفاسِها، تحلمُ بالعودةِ إلى بيتِها الّذي طُردَتْ منهُ عَنوةً.

لو رُوحان وقَلبانِ وجَسدان!*
نظرتْ إلى وجهِ أمّها حينَ خرجتْ مِن التّحقيقِ الأمنيِّ الجافِّ، فأصابَها الذّعرُ والقلقُ.. كانتْ عيونُها قانيةً حمراءَ، ووجهُها كانَ يَميلُ للاصفرارِ.. حاولتْ أن تبتسمَ ففشلتْ.. استجمعَتْ قواها بعدَ أنْ وجّهتْ ناظريها إلى السّماءِ، وقالت لها بصوتٍ واثقٍ: أنا بِخيرٍ أمّي، فلا تَخافي. شعرتْ بِخفقاتِ قلبِها وهي تضمُّها وتعاتبُها بصوتِها الرّقيقِ الحزينِ، وقالتْ: اقسمي لي أنّكِ لن تشتركي بعدَ اليوم بأيِّ نشاطٍ سياسيٍّ.. أنتِ "بنت".. لو كنتِ شابًّا لاختلفَ الأمر.قاطعَتْها كعادتها: لكنّي بِمليونِ شابٍّ.. أليستْ هذهِ شهادةُ الجميعِ بي، وأنا مؤمنةٌ باللهِ والوطنِ والقدَرِ.وذكّرتْها أنّهُ عليها السّفر مباشرةً إلى ناصرةِ الجليلِ، فقاطعتْها: لكنّكِ بِحاجةٍ للراحةِ، فقد مكثتِ عشرينَ ساعةً في التّحقيقِ دونَ أكلٍ، والله أعلمُ بِما واجهتِهِ مِن تَهديدٍ ووعيدٍ. ضَحكتْ وقالت: لقد تعوّدتُ عليهم.. وقبّلتها مِن جبينِها وودّعتها، واستقلّت سيارةَ أجرةٍ، وتَمّنتْ بينها وبين نفسها، لو أنَّ اللهَ يهبُها روحيْنِ وجسدَيْنِ وقلبيْنِ لتفديَ أمّها والوطنَ.

على اللّوحِ باللغةِ العِبريّة
كانتْ أحداثُ تشرين أول/أكتوبر الأسود سنة (2000) في أوجِها، ومع هذا رأَتْ هيَ أنْ تُواصِلَ تعليمَها في جامعةِ "بار إيلان"، ورغمَ أنّها كانتِ الطّالبةُ العربيّةُ الوحيدةُ في فصْلِها، إلاّ أنّها تفوّقتْ عليهم دومًا، ما جعلَ أحدَ المحاضرينَ يُعجبُ بِها.وذاتَ يومٍ حدثَ نقاشٌ وجدالٌ داخلَ فصْلِها، وعَلَتْ أصواتٌ مطالبةٌ بطردِ الطّلاّبِ العربِ مِن الجامعةِ، ووقفَ أحدُ زملائِها المعروفُ بعملِهِ بصفوفِ المخابراتِ الإسرائيليّةِ وقال:العربيُّ يظلُّ كلبًا، يرشقُنا بالحجارةِ في وادي عارة، والنّاصرة، وأمّ الفحم.. يقيمُ المظاهراتِ التّضامنيّةَ مع الفلسطينيّينَ.. سئمنا العرب.. ألا يكفي أنّنا تركناهم يتعلّمونَ ويعملونَ؟قامَ المحاضرُ بلَجْمِهِ: صه، إنّها ليستْ عربيّةً، بل مسيحيّةً.. هنالكَ فرقٌ كبيرٌ، اعتذروا منها.عندَها وقفتْ وقالت: أنا عربيّةٌ، بل فلسطينيّةٌ، وهذه أرضي ووطني، وأنتم الإرهابيّون. "بار إيلان" كانتْ قريةً عربيّةً قبلَ أن تَحتلّها "حكومةُ إسرائيل"، ومعظمُ أهلِ أمّي اليومَ في رام الله والأردنّ وسوريا؛ طُردوا مِن اللّدّ لتقومَ دولتُكم على أنقاضِ الدّم. حينها قامَ المحاضرُ بطرْدِها مِن الصّفِّ، وطالبَ بِمثولِها أمامَ لجنةِ الطّاعةِ لتعتذرَ لهُ على وقاحتِها أمامَ الفصلِ، فرفضتْ. تَمَّ منعُها مِن دخولِ الجامعةِ لمدّةِ شهرٍ كاملٍ، لكنّها عادتْ بعدَ ذلكَ مرفوعةَ الهامةِ متماسكةً، وكتبتْ لهم على اللّوحِ باللّغةِ العبريّةِ: "السّاكتُ عن الحقِّ شيطانٌ أخرسُ".

الكل يتقيأ الحياة



ضاع الأمل
وانتحر التفاؤل
ودفن الحلم
وانتهى السلم
وكثر الذئاب
وكأنهم ذباب
لا تعرف بدايتهم
ولا حتى نهايتهم
فهم أكثر من الرمل
في زمن الوحل
وفي عصر الأنذال
الكل يتقيأ الحياة
فلا حياة
إنما وجودنا وهم
نعم أكبر وهم
لا أمل في البقاء
لا أمل في النقاء
نحن في زمن الافتراء
زمن ضاع فيه الوفاء
زمن انتشار الخيانات
زمن عبادة العملات
وطعن الصدق والشرف
والتشدق بالفسق وبالقرف
والآن آن لي
أن اعترف
وأعترف وأعترف
أنيا انتهيت نعم انتهيت

ميتة دون كفن دنوت
مقيدة بآلاف القيود واللعنات
روحي تئن وتنحني بانكسار
تسأل باريها بخشوع
أيموت الميت مرتين
أم يعود ويحيا من جديد
وجنود الشر
حطمت جدار إيمانه
ورجاءه وسلامه.

ستذهبينَ إلى بحرِ يافا ..

وقفتْ طويلاً أمامَ المرآةِ وتفحّصتْ ملامِحها عشراتِ المرّاتِ:هل يُعقلُ أن تتغيّرَ ملامِحي بينَ عشيّةٍ وضحاها؟
حاولتْ أن تصرخَ بأعلى صوتها: اُخرُجْ منّي يا ملعون.. لا مكانَ لكَ بِحياتي.
لكنّهُ شيطانُ الاكتئابِ ربطَ وعطّلَ أوتارَ صوتها.حاولتْ أن تعزفَ على نايها القديم الّذي أهملتُهُ سنواتٍ، إلاّ أنّهُ عاقبَها أيضًا، وأبى أن يستجيبَ لها.
شعرتْ بقشعريرةٍ تسري في أنحاءِ جسدها السّجينِ، فها هي تتمكّنُ منها، وترتعدُ كافّةُ عظامها برعشةٍ شديدةٍ هزّتْ معَها كلَّ جزءٍ مِن كيانها.
ردّدَ عقلها الباطنيّ: أنتِ أقوى مِن الاستسلامِ.. أصلبَ مِن الانهيارِ.. لن أسمحَ لكِ بالسّقوطِ في براثنِ الاكتئابِ.رفعتْ قلبها إلى السّماءُ في خشوعٍ تتضرّعُ: إذا أنتَ يا ربُّ معي، فمَنْ يكونُ عليَّ؟ أشِدَّةٌ، أم ضيقٌ أم اكتئابٌ؟بدأت القيودُ تتفكّكُ.. لا تدري كيفَ.. بلمحةِ بصرٍ انتقلتْ مِن قبضةِ الاكتئابِ إلى سلطانِ الأملِ والرّجاءِ، سَمعتْهُ يَحثُّها:اِبكي في حضرةِ اللهِ، لأنّ الدّموعَ قوّةٌ، وتَحريرٌ، والآنَ سأتركُكِ للجمهورِ يا عزيزتي.قالت: لكنّي متعبةٌ...
أمسكَ بيدها، وقال: الجمهورُ، وحبُّ النّاسِ رصيدُك بالحياةِ.. اُتركي حزنَكِ الآنَ، وبعدَ العَرضِ ستذهبين إلى بَحرِ يافا،

وستصرُخين: اُخرجْ ..اُخرُجْ يا ملعون.. ستغرقينه في البحرِ.. لن يُقاسِمَكِ الفراشَ والمأكلَ والمشربَ أو أيَّ شيءٍ. أسدلَ السّتارَ، وعادتْ تبتسمُ من كلِّ قلبها

حادثـةٌ

لا تدري ماذا حدث. كلُّ جزءٍ بها انتفضَ.. صرخَ.. تَحدّى وزنَ جسدها الأشبهَ بوزنِ الفيلِ.. المتعبِ المترهِّلِ الآيلِ للفَناءِ بكلِّ لحظةٍ.
غادرتْها روحها لتبحثَ عن حرّيّتِها.. أرادتْ جسدًا محصّنًا.. قويًّا.. مرِنًا.. مَمشوقًا.. أكثرَ شبابًا ونضارةً ورونقًا. لَم تحاولْ منْعَها، ولن تتربّصَ بها أو تسجنَها، فللرّوح كاملُ الحريّةِ في اختيارِ الجسدِ الّذي يُناسبُها، لاسيّما أنّها (هي) شاختْ قبلَ أوانها. عجيبٌ أمرها! سئمتْ من نفسها، ومِن شكلها، ووزنها.. كانت تائهةً، ومُمزّقةً، ومذبوحةً، ومشتّتةً، لدرجة أن أصبحتْ لدموعها طعمُ "الشّوكولا"، و"الجاتوه"، و"الستيك". ازدادَ في وزنِهِ، واستشرى في تضخّمِهِ، وهي لا لها، ولا عليها. كرهتْهُ، تنكّرتْ لهُ، انتقمتْ منهُ. ألَمْ يَخذلْني؟ ألَمْ يتخَلَّ عنّي؟ أما سمحَ للذّئابِ أن تشوِّهَهُ.. تُذلَّهُ.. تُدميهِ؟ كانَ مُستسلمًا بعدَ أن خدّروهُ، وعندما انتهى مفعولُ المخدّرِ، اكتشفتْ أنّها لَم تعُدْ تلكَ الطّفلةَ الصّغيرةَ البريئةَ. كانوا يرقصونَ حولها بحلقاتٍ شيطانيّةٍ. عرفتْ مِن يومِها معنى الألمِ.. فهمتْ كيفَ يُدنّسُ الحبُّ.. أدركتْ كيفَ ألبسوهُ ثوبَ الدّعارةِ!

مذكرات شهيد عاشق


ذات مساء،
سألتحق بموكب الشهداء،
وأحلق في السماء وأتزوج حبيبتي هناك،
لست إرهابيا،
فلسطيني، فدائي، أنا،
دنسوا أرضي،
اغتصبوا حقي،
هدموا بيتي،
قتلوا حلمي،
هدموا مآذن المساجد،
أحرقوا أيقونات الكنائس،
أجهضوا أشجار قريتي،
قتلوا حبيبتي ناردين،
فيا أمي لا تبكيني،
بل ارفعي هامتك وزفيني،
وغني للوطن المواويل،
أنا شهيد الوفاء،
وليس آخر الشهداء،
من الجنة أعانق قدس أقداسي،
حي أنا بالعلا باقي،
في القمم أحلق كالنسور،
لم أنكث عهدا و لا ناردين يوما،
في مواجهة الغاصبين دهرا،
سجنوها حبيبتي،
هي الحرة الأبية،
لم تراقصهم ،
لم تحتسي الذل ،،
سجنوها حبيبتي ،،
اتقدت نارا،
شعلة من الوفاء ،،
لم تساوم ،،، لم ترضخ،،،
في أقبية العار ،،،
وزنازين الذل
تغتصب الملائكة ،،،
باليرون قتلت،
الشهداء لا ينتحرون،
أناديك من لحدي،
الثائر المنتقم
شعبنا ضاقت سبله،
هذا قرآني وهذا إنجيلي،
وهذا مثواك الأخير،
صليبك اسود،
يا أبونا حنا
ويا أمنا جو رجيت
ويا أبي الشيخ،
عناق وقراءة وصلاة،
ناردين قتلت ولم تساوم،
ناردين يا أمي
لم تتاجر بنا يوما،
دعتني يا أمي،
من سمائها السابعة،
قالت،
يا أحمد يا رفيق دربي،
اثأر لدمي،
ادفع مهري،
موعدنا جنان الرب،
أطفالنا حجتنا
هنالك الحياة،
لنلبي انتظار الشهداء،
تتويج من الرب هناك،
احتفال ملائكي،
عرسنا سماوي،
هو انتقام من الغصب،
دفع مهر الأرض،
ومهر الرب،
ومهر ناردين

ماء .. خلّ .. زيت زيتون .. كلُّه واحد


كان يزور جدي بإستمرار .. كانت ملامحه عابسة حزينة وكئيبة تبعث الرهبة والشفقة
في الآن ذاته ... كان حديثَ الناس لأعوام كثيرة ...
ذات يوم كنت في بيت جدي .. شعر سمير بالعطش فتوجه إلى البراد مباشرة
وروى ظمأه ....
نظرت جدَّتي إليه باستغراب شديد وقالت له:
- ألم تشعر بطعم غريب؟
قال لها:
- أبدا ... الماء كان بارداً ولذيذاً يا امُّ سليم ..
ضحكت جدتي وقالت له:
- لقد شربت قنينة كاملة من زيت الزيتون ..
- أنتِ جادَّة يا امُّ سليم ؟؟ ياه .. أنا !! أنا .. لا فرق عندي بين ماء .. أو خلٍّ .. أو زيت زيتون .. كلُّه واحد
قبل أربعين عاماً، كان سمير من أفضل وأبرع صيادي وملاحي فلسطين. عمل تحت إمرَتِه عشرة صبيان .. كان زوجاً مخلصاً وحنوناً واباً رائعاً .. أحب زوجته بجنون ... إلا أنها خانته مع صبيٍّ من صبيانه ...
مسكهما متلبسَين في فراشه .. شبه عراة كما خلقهما الله .. صرخ: لماذا ؟؟ لماذا ؟؟
وعلى صراخه اجتمع الجيران ليبعدوا زوجته ... أما الأطفال فقد احتضنتهم والدته....
بدأت إجراءات الطلاق ،إلا أن سمير تراجع فجأة وقال للكاهن:
- أنا أحب زوجتي ... وسأغفر لها .. لديَّ كوم لحم .. هم بحاجة لأمهم يا أبونا ...
بدون اكتراث ولا وجل أسرَّ لأصدقائه المقربين الذين عارضوه بشدة:
- إن كان أحدكم بغير خطيئة فليرجمها ....
ذهب بوجاهة كبيرة ترأسَّها كاهنٌ وشيخ .. ردَّ زوجته إليه .. وأمضى معها أياما عديدة .. ظن خلالها الكل أن سمير غفر لزوجته وبدأ معها عهداً جديداً.
في الأسبوع التالي ذهب سمير وزوجته للسوق ... اشتريا بلطة وكعكة .. وفي المساء .. وعلى خلفية انتقامية، ذبحها وأخرج كبدها وأكله، ليسلِّم نفسه للشرطة .. لبس زنزانتَه لمدة عشرين حولا ..
كان استقباله حاراً من طرف الأصدقاء الذين هيأوا له ليلة بكل ألوان الطيف ..
وهو الصياد الماهر ... ولذكرى الأيام الخوالي رافقوه في رحلة صيد .. صال سمير وجال وأبان قدراته الخارقة في فن القنص .. وهو يحوم ببصره في كلِّ اتجاه . تراءتْ له ريم بيداءَ تخطف الكحل من العين .. انقلبت نشوة القنص إلى حقد عارم ليصيب الريم في مقتل... شرب دمها وهو يردد:
- جسمي محصن قوي .. لا يهزني أو يزعزعني شيء ...
مضت السنون ... مات معظم رفاقه .. مات جدي .. وسمير لا يزال يمارس هوايته في الصيد ويأكل لحم القطط والكلاب رغم تعديه الثمانين حولاً .. إلا أنه أقوي من شباب العشرين .. قبل أسبوع التقيت به صدفة وكنت حزينة بعض الشيء فاقترب مني وقال:
- راضية .. ( مالِكْ ؟ مين زعَّلِكْ ؟؟ احْكيلي مين .. بِدْبَحو .. وبِشْرَبْلِك دمُّو .. )
ولكني لم أجرؤ على إخباره أنني أعرف أن شرْبَ الدَّم عنده كشرْب الماء !
كما أن الوقت لم يحن بعد .. إلى متى ؟؟؟؟؟

انطفاءُ الرّوح

جلستْ على سريرِها الأسودِ تبكي ماضيها وحاضرَها ومستقبلَها.. كانتْ دموعُها سيلاً متدفّقًا.. راحتْ تسترجعُ ما حدث لها بالأمسِ القريب.. تذكّرتْ ليلتَها الظّلماءَ؛ ليلتَها السّوداءَ القاتِمةَ الّتي بكاها القمرُ، والشّجرُ، والحجرُ.. وهل تنسى ليلةَ دفنتْ حبَّها وتَمسُّكَها بالحياة؟
ليلتَها الّتي تَمنّتْ حضورَ الموتِ فيها قبلَ أن تكتشفَ قسوةَ ودونيّةَ ذويها.. ليلتَها الّتي حوّلتْها إلى مجرّدِ جسدٍ فارغٍ مِن روحِهِ، ومِن فرطِ الحزنِ، ساعدتْ على ارتطامِ رأسِها بالجدرانِ الباردِة، تئنُّ صارخةً مِن أعماقِ أعماقِها.
أرادتِ اختيارَ شريكِ حياتِها بنفسِها.. ظنّتْ أنَّ هذا مِن حقِّها.. آمنتْ بالحبِّ، وتغنّتْ بالحبِّ الصّادقِ الطّاهرِ.. كانتْ تؤمنُ بِمقولتِها: بالمحبّةِ تستطيعُ الوصولَ إلى كلِّ شيءٍ.
صدّقتْ كلَّ شيءٍ، وضحّتْ بكلِّ شيءٍ، وأمضتْ أجملَ سنواتِ حياتِها بالجامعةِ.. عرفتْهُ وأحبّتْهُ حبًّا كبيرًا.. أقسما على الارتباطِ بالزّواجِ، وتعاهدا على أن لا يفترقا.
كانتْ تُحضّرُ للّقبِ الجامعيّ الثّاني، وكانَ هو يُحضِّرُ للدّكتوراه.. قرّبتْ بينَهما أفكارُهُما الثّوريّةُ والوطنيّةُ..كانا يَمضيانِ معًا أجملً اللّحظاتِ، خصوصًا تلكَ الّتي تتعلّقُ بترتيبِ النّدواتِ السّياسيّةِ والاجتماعيّةِ للطّلاّبِ العربِ من أصدقائِهم المُقرّبينَ.
اتّفقا على إتمامِ الزّواجِ بالسّنةِ نفسها، ولَمْ تُخْفِ الفتاةُ قصّةَ حبِّها وتعَلُّقِها بفارسِ أحلامِها، ولا هو أخفى ذلكَ.. تقدّمَ الشّابُّ يطلبُ يدَها، وقد باركتْ عائلتُها الخطبةَ، فالشّابُّ مِن عائلةٍ ثريّةٍ ومحترمةٍ، والمستقبلُ مفروشٌ أمامَهما بالزّهورِ.
باتا يقضيانِ معًا ساعاتٍ كثيرةً، يُحَضِّرانَ خلالَها لمراسيمِ الزّفافِ، ولَم يتبقَّ لموعدِ القرانِ سوى أسبوعَيْنِ.
في نشوةِ التّحضيراتِ هذهِ، اكتشفتْ عائلةُ الفتاةِ أنّ للشّابِّ أختًا تزوّجتْ بفتًى لا يدينُ بدينِها، وقد هاجرتْ معَهُ منَ البلادِ دونَ رجعةٍ، منذُ أكثرَ مِن عشرِ سنواتٍ.
جنَّ جنونُ الأهلِ وأعلنوا قرارَهُم بلسانِ والدِها:
اِنْسَيْ هذا الشّابَّ.. ستتزوّجين ابنَ عمّتِكِ.. صحيحٌ أنّهُ مُطَلّقٌ ويكبرُكُ بعشرينَ سنة، لكن أخواتهُ شريفات.
رفضتِ الفتاةُ قرارَ عائلتِها المُجْحِفِ رفضًا تامًّا، رغمَ الضّغطِ الّذي انتهجَتْهُ ضدَّها، ورغمَ حَبْسِها بغرفتِها، وطردِ حبيبِها وخطيبِها، ولَم يتورّعوا بتهديدِهِ بالقتلِ، لكنّها بقيتْ متشبّثةً بهِ، رافضةً الزّواجَ بابنِ عمّتِها مهما كلّفها الأمرُ. ولأنّ أباها صاحبُ سلطةٍ ونفوذٍ في القريةِ، استطاعَ التّغريرَ بأحد الشّخوصِ المرموقينَ في القريةِ، قصدَ تزويجِهِ بابنتِهِ، وعنوةً، دخلَ على الفتاةِ وهيَ بِملابسِ النّومِ:
- هل أنتِ موافقةٌ على الزّواجِ بي؟
- لن أقبلَ الزّواجَ بِهذهِ الطّريقةِ.
حاولَ إقناعَها بالعدولِ عن رفضِها الّذي لا مُبرّرَ لهُ في رأيِهِ، لكن دونَ جدوى.
غادرَ المنزلَ وهو يعترفُ لأبيها بأنّهُ فشلَ في ترويضِها، وأنّهُ لا يستطيعُ إرغامَها.
بعدَ ساعتينِ مِن مغادرَتِهِ، وبينما هي مستغرقةٌ في نومِها، أحسّتْ بأنّها ليستْ وحدَها في سريرِها، وأنّ ثَمّةَ يدًا آثِمةً تُحاولُ العبثَ بكرامتِها الّتي حافظتْ عليها سنينَ عديدةً، رغبةً منها في تقاسمِ حلوِها مع مَن تُحبُّ.
راحتْ تقاومُ وتصرخُ.. لكنّهُ والدَها.. أسرعَ يساعدُهُ.. أمسكَ برجليْها، وبتواطؤٍ مع أمِّها!
أصواتٌ غوغائيّةٌ ردّدتْ: لا تقلقي.. ستتزوجينَهُ.
كانتْ صرخةٌ مدوّيةٌ مزمجرةٌ فاقتْ حدودَ الاغتصابِ!
غادرتِ البيتَ مسرعةً ليلتَها.. استقلّتْ سيّارتَها بثياب نومِها.. دخلتْ أوّلَ فندقٍ صادفَتْهُ عيناها.. أمضتْ بهِ ما يزيدُ عن الأسبوعِ، لكن فورةَ الانتقامِ بقيتْ تشتعلُ لنفسِها ولشرفِها، إلاّ أنّ رغبةَ أخيها الّذي اطّلعَ على المشكلةِ، والّذي كانت تُحبُّهُ حبًّا شديدًا، أثنتْها عن فكرةِ الانتقامِ، لكن ما أثنتها عن فكرةِ الإجهاض.
دونَ وداعٍ تركتِ البلادَ لتسلكَ دربَ النّسكِ، لكن هيهات لها أن تنسى جرحًا لن يندملَ، أو أن تغفرَ لذويها ما اقترفوهُ بِحقِّ روحٍ أطفئتْ قسرًا وتَجبّرًا دونَما ذنبٍ.

مِن خربشاتِ الرّوح


دموعي!؟
ما عادتْ ملكي الشخصيّ، وما عادتْ جزءًا من اسمي وهويّتي!
موتٌ يُحاصرُني هنا وهناك في أزقةِ مدينةٍ باتتْ غريبةً عني!
لم أعُدْ جزءًا مني وأنا لم أعدْ أنا!

قالت:
اختاري ما بيني وبينه!
ولم تعرفْ أنّي قد اخترتُ الانسلاخَ عنهما للأبدِ


لعلي بالموت أجدُ ما لم أجدْهُ بالحياةِ؟
لعلي في بطن الأرض أجدُ ما لم أجدْهُ على وجهِها؟
هل أعترفُ أنّني انتهيتُ؟
وهل الاعترافُ سيّدُ الأدلّةِ القاطعةِ الفاصلةِ الناهيةِ والنهائيّة؟
إذًا؛
هلاّ أحضرتُم حبلَ المشنقةِ لتعلّقوني!
من خاصرةِ الماضي؟
من أنفاسِ بلدي؟
من نبضِ حرفي؟
أم ... أم ... أم ... ؟
بدونِ وجلٍ او خجلٍ
قالتها
قهقهته الشامتة
:
اشكري ربّكِ وحظكِ
ألفَ ليلةٍ وليلة
ألفَ نقمةٍ ونعمةٍ
أنكِ
م.. س........
وإلاّ.. كانَ الشّرفُ
قـَتـَـلـَـكِ!

لا مكان لكم بيننا ..


كأنّ مُحيطها يوحي بالموت؛ البردُ قارسٌ، وموشومٌ بلونِ الدّم هذا الصّباح.. الرّائحةُ كريهةٌ، ومَمزوجةٌ ببصماتِ رصاص.. مقبرةٌ القريةِ مهملةٌ، والأحياء بِها غدَوْا مُجرّدَ خشبٍ منخورٍ، تسندُهُ أرواحٌ غارقةٌ في بَحرٍ من الاكتئاب. تشعرُ بالرّهبة، ومع ذلكَ تحاولُ تَجريعَ نفسها بقوّةٍ فلتَتْ منها لِهَوْل حَدَثٍ يعاودُها؛ تطاردُها الصّورُ، ويُلازمُها الجرحُ الغائرُ في الرّوحِ، وأدندنُ:"يُمّا مْويلي الهوى يُمّا مْوليّا ضَرْبِ الخناجر ولا حُكْمِ النّذلِ فيّا" تتذكّرُ أنّها سمعتْ هذهِ الأغنيةَ الوطنيّةَ قبلَ حوالي إحدى عشرة سنة.. لَم تسمعْها بعدَ ذلك، ولَم تحاولْ حتّى دندنتَها على مدى هذهِ الفترة، إلاّ أنّ كلماتِها بقيَتْ محفوظةً عن ظهرِ قلبٍ في قلبها حتّى هذه الساعة.مَشاهدُ مِن الماضي البعيدِ تتجسّدُ أمامَ اللّحظةِ الضّبابيّةِ دونَ سابقِ إنذارٍ، ودونَ تَخطيطٍ أو شعورٍ تَنتفضُ لا إراديًّا.حبّات عرقٍ تتلألأُ على جبينها، وتنصبُّ ألَمًا يُعانقُ دموعًا تَخونُها مِن جديد.الزّمنُ: صيف (1994).المكانُ: الشّارع العموميُّ في مدينة بالضِّفة الغربيّة. إنّهم يتراكضونَ، لكنّ الجنودَ يُحاصرونَهم مِن كلِّ حدبٍ وصوْب.نريدُهُ بأيِّ شكلٍ مِنَ الأشكالِ.. يَجبُ القبضُ عليهِ اليومَ والآن.. معلوماتُنا دقيقةٌ، إنّه الأرمنيُّ.. سيمُرُّ مِن هنا.. هذا ما أكّدَهُ رجُلُنا هناك.. استعدّوا يا جنود.. يتحدّثُ قائدُ الجيشِ في منطقةِ رام الله لعشرةٍ من جنودِهِ وأتباعِهِ، بعدَ أن وزّع عليهِم صورته.أضافَ قائدُ الجيشِ: رجُلُنا قالَ بأنَّ مظاهرةً كبيرةً ستجوبُ الشّوارعَ.. احْرِصوا على أنْ لا يفلتَ مِن بينِ أيديكُم.. أريدُهُ حيًّا أو ميتًا.. أريدُ أن أجعلَهُ عبرةً لِمَن لا يعتبرُ.كان وحيدَ أهلِهِ، وعاشقًا كبيرًا للحرّيّةِ.. كانَ سلاحُهُ الحجرُ، والإرادةُ القويّةُ، والإيمانُ بالنّضالِ ضدَّ كلِّ فاسدٍ، ومُفْسِدٍ طاغيةٍ.أمّهاتُ المخيّمِ تَمنّيْنَ مِن الله أنْ يهبَهُنَّ أبناءً مثلَه لا يَخافُ لوْمَةَ لائمٍ.لكن.. كأنّهُ الموتُ كانَ على موعدٍ معه في سوادِ ذلكَ اليومِ الأغبرِ، بعدَ أن تربّص بهِ الجنودُ في كلّ الزّوايا والدّروبِ؛ رمَوْهُ برصاصِ الغدرِ دونَ رحمةٍ.. سقطَ.. عاودَ النّهوضَ والرّكضَ.. لكنّهم لحقوا بهِ.. أمسكوهُ وطرحوهُ أرضًا، ثمَّ قيّدوا رجْليْهِ بِحبلٍ، وربطوهُ إلى سيّارةِ جيبٍ تَجرّهُ مُمرّغًا بدمائِهِ وترابِ بلدِهِ.. جالوا به الشّوارعَ بنرجسيّةٍ وقحةٍ وبتعالٍ مَمقوتٍ.أحدُ الجنودِ كانَ يُردّدُ: لقد قضيْنا عليهِ.. سيكونُ عبرةً لِمَن لا يعتبر.صرختْ صبايا: قتلوه.. مات.. رحلَ العريس..صرختْ خطيبتُهُ المفجوعةُ بِموتِ حُلمِها: اللّعنةَ على الخونةِ والمدسوسين والمتصهينين..اختطفَ الشّبابُ الأوفياءُ الجثّةَ قبلَ أن يُدنّسَها الجنودُ ويُمثّلوا بتفاصيلها البريئةِ، وأخفَوْها عن العيونِ المراقبةِ للحدثِ الجَلَلِ.انتشرتِ الصّاعقةُ بينَ أبناءِ المدينة وفي ضواحيها الصّامدةِ.. هرعوا بالتّوافد إلى النّادي، والكلُّ يسعى للمشاركةِ في تنظيمِ جنازةٍ تليقُ بالبطل.في اليومِ التّالي، وبعدَ تشييعِ جثمانِ الشّهيدِ في كنيستِهِ، فُتحتْ أبوابُ النّادي على مصراعيْها في استقبالِ وفودِ المُعزّينَ الغفيرةِ، فإذا بصوتِ عجوزٍ يصرخُ فجأةً: أخرجي مِن هنا أيّتها العميلةُ فأنتِ السّببُ.. أنتِ وزوجُك وأولادُك.. لقد قتلتموهُ واليهودُ.. ماذا تريدونَ بعْد؟ أخرجوا مِن هنا.. لا مكانَ لكم بينَنا.

اعترافٌ يُمَرْمِرُ رائحةَ العتمة



ثمّةَ اعترافٌ يُمَرْمِرُ رائحةَ عتمِي
يُريقُ اللّسانَ شللاً في الحلقِ
يَقطرُ بَوْحَ أطرافي عَجْزًا
ويُعَثِّرُ خطواتِ أفراحي

ثمّةَ اعترافٌ يَلِجُ لهيبَ الضّميرِ
يُحَرِّكُ عِتابي
يُحَرِّقُ ضبابي
ويُشَرِّعُ بوّابةَ قبرِ ماضٍ
حفَرَتْهُ أظافرُ سوداءُ
لِتُوارِيَ خفايا الرّوحِ
مِنْ قَبْلِ التّكوينِ

روحٌ هائِمةٌ في غابةِ عذابٍ
تستجدي نقطةَ نورٍ تُلَوِّنُ ظلامَ الصَّخَبِ
تندلعُ بجذوعِ البراءةِ نارُ ضياعي
وأمضي في موكِبٍ نارِيٍّ
من نورٍ إلى نارِ
وتَغْرَقُ مُقَلُ القلبِ بأنهارِ وَرْدٍ قانٍ


إنّه اللّيلُ يا أحمق!




قالَ الشّقيقُ الكبير: لقد غسلتُ عارَنا بيدَيّ؛ قتلتُها يا أبي قبلَ أنْ تسيءَ لشرفِكَ وشرفيَ.صرخَ شقيقُهُ الصّغيرُ: ويحَكَ.. لا أصدّقُ أنّكَ قتلتَ شقيقتَكَ! لماذا؟ ماذا فعلتْ؟ وبِماذا أجرمتْ؟ أتعتبرُ نفسَكَ أكاديميًّا؟ أنتَ قاتلٌ، وسأبلغُ عنكَ، وأشهدُ ضدَّكَ.صاحَ الأخُ الكبير: بلِّغْ إنْ شئتَ، فالسّجنُ أصلاً للرّجالِ ولحماةِ العِرضِ، وستشكرُني على أنّي قتلتُها يومًا ما، قبلَ أن تُلطّخَ اسمَ عائلتِنا بالوحلِ.. أختُكَ يا أفندي ويا متعلّم لديها عشيقٌ.صرخَ بهِ شقيقهُ الصّغير: أنتَ كاذبٌ ومُفترٍ.. حرام عليك.قالَ الشّقيقُ الكبير: الكلُّ رآها بالأمسِ وهي تنـزلُ مِن سيّارةِ عشيقِها، والأدهى أنّهُ أوصلَها لغايةِ البيت.صرخَ أخوهُ ولطمَ على وجهِهِ نائحًا: ألهذا قتلتَها يا مجنون؟قال الشّقيقُ الكبير: نعم.. قتلتُها لأجعلَها عبرةً لبناتِ العائلةِ. ردَّ شقيقهُ الصّغير: يا مجنون.. أختُك أشرفُ مِن الشّرفِ؛ لقد أوصلَتْها زميلتُها بالأمسِ، عندما تأخّرَ الدّوامُ، وسأثبتُ لك ذلكَ.قال الشّقيقُ الكبير: لكنْ مَن أوصلَ شقيقتي يبدو شابًّا. ردّ الأخُ الأصغر: إنّهُ اللّيلُ يا أحمق.. لِمَ لمْ تتأكّدْ ولَمْ تسألْني؟ وَ... سُمِعَ دويُّ طلقةٍ

صفعةٌ فدفعةٌ فرصاصٌ فأشلاء

الفرحةُ تزغردُ في عيونِهما، كيف لا، وهُما أخيرًا سيرتبطان بعقدِ زواجِهما المقدّس.. أخيرًا سيضُمُّها وتضمُّهُ، سيُقبِّلُها وتُقبِّلُهُ.. هي أيّامٌ قليلةٌ ومعدودةٌ فقط، وكلُّ القريةِ ستحتفلُ بعرسِهِما الفلسطينيّ.. عشرُ سنواتٍ مرّتْ في انتظارِهِ، وما ملّتْ من الانتظار، فقد أحبّتْهُ لدرجةِ العبادةِ، وجعلتْ صورتَهُ أيقونةَ خلودٍ علّقتْها على صدرِها.ذهبتْ إلى القدسِ لتصلّي في المسجدِ الأقصى صلاةَ شكرٍ وامتنانٍ لبارئ الكونِ المتحنّنِ عليهِما باللّقاءِ والزّواجِ، لكنّها تأخّرَتْ عن موعدِ عودتِها.مرّتِ السّاعاتُ ثقيلةً باردةً، وباتَ القلقُ يُراودُ والدتَها.- اهدئي، وصلّي على النّبيّ.. أنتِ تعرفينَ بناتِ اليوم.. إنها ستعودُ.- لكن الطّوقُ الأمنيُّ، والحواجز، و...- معَها تصريحٌ فلا تقلقي.بَلعَت ِالأمُّ جمرةَ قلقِها كحبّةِ دواءٍ مُرٍّ كاويةٍ.–أين أنتِ يا ابنتي؟ أينَ أنتِ؟التّلفازُ الإسرائيليُّ في نشرةٍ إخباريّةٍ عاجلةٍ.. مَفادُ الخبر:قامَ جنديُّ على حاجزِ القدسِ بإطلاقِ النّارِ على سيّدةٍ فلسطينيّةٍ في عِقدِها الثّالثِ، يُشتبهُ أنّها دخلتْ مدينةَ القدسِ لتنفيذِ عمليّةٍ تفجيريّةٍ بِحق ِّمواطنينَ مِن اليهودِ الأبرار!على الحاجزِ حاولَ الجنديُّ إرغامَها على التّعرّي لاستفزازِها، كما يَجري عادةً على الحواجز، وقد وضعَ يدَهُ على صدرِها محاولاً إلصاقَ جسدِهِ بِجسدِها، فصفعتْهُ ودفعتْهُ عنها، فأرْداها قتيلةً، بعدَ أنْ أفرغَ رصاصَ حِقدِهِ ونقمتِهِ بِجسدِها النّحيلِ الممشوق.أمّا خطيبها، فقد غادرَ زنزانتَهُ الّتي لبسَها عشرَ سنواتٍ، وكم كانَ مغمورًا بِحُلمِهِ بها، وبالارتِماءِ بأحضانِها أخيرًا في بيتِهما الزّوجيِّ، إلاّ أنّه فُجِعَ بقتلِ حبيبتِهِ الّتي طالما انتظرَها.وكانَ مَصابُهُ جللاً، وقرّرَ أن يغادرَ قريتَهُ، بعدَ أن تَمّتْ مراسيمُ الدّفنِ، وبعدَ أن قدّمَ واجبَ العزاءِ، توجّهَ إلى قبرِ حبيبتِهِ ليمضيَ ليلتَهُ بطولِها بِجانبِ قبرِها.اختفى، واختفتْ آثارُهُ في حبِّهِ السّرمديِّ. في الصّباح حَملتِ النشرةُ نبأَ عمليَّةٍ استشهاديّةٍ كبيرةٍ في مدينةِ "نتانيا"، أسفرتْ عن مقتلِ خَمسة وعشرين من الإسرائيليّين، كانَ معظمُهُم مِن المجنَّدينَ والمجنَّداتِ.منُفِّذُ العمليّةِ أشلاؤُهُ مِزقًا.. مجهولُ الهويّةِ.

الجمعة، 24 يوليو 2009

حكاية نجمِ حبٍّ خالد

كما الإعصار في غابٍ غزا أرجاءها
ويدورْ
تدور بيْ الدنيا
تدورْ
وأبقى في سمائي
أرقب العلياء
فخراً
أتقن التحليق ما بين النسور
لا أنكسرْ
لن أنكسرْ
لم ينقبضْ قلبي لحبِّ مغامرٍ
غزّتْ سواقيه الشُّرورْ
تدورُ بيْ الدنيا
تدورُ وأبقــى
نجمةً
من ربِّها كنزُ الضّياء يشعُّ نورْ
فهو الصديق المخلص المعطي الذي
من خيره نبعُ السرور
فالرّوح تنقى بحبّه
دهراً
وتخْلفه الدّهورْ
فلمَ نزيف القلب
أو قلقٌ يحيط النفس بالألم الكثيرْ
دعْ عنك ياقلباً حظى بمحبّة تغني الفقيرْ
دعْ عنك غمـّاً
لا تساورْك الشكوكُ فأنت في الحبّ الأميرْ
وترفّعي يانفس عن حالٍ طوَتْ
ضوّى ظلام سمائها قمرٌ منيرْ
وترنّمي بالشكر لله
الذي أبقاكِ نجماً
عُدَّ للحبّ سفيرْ
لمواكب الأحباب خيرُ مُرافقٍ
ودروبَهم دوماً ينيرْ
لا يسقط النّجم الذي
حُبّاً تُغازله الزهورْ
أما حبيبٌ يجهل الحبّ الحقيقيَّ الذي الصّدقُ بذورُه والجذور
فلينكفىء وليبتعد عن جنّة الحبّ
التي فيها النقاء
وليس فيها للنفاق معاً حضورْ
إن كان يسعده النفاق ولعبةُ البطل الجسور
فلينتقي من أرضه مليون عاشقة
يمارس بينهنّ هوىً
وسوءَ هوايةٍ
ورْداً يموج بلا عبير
هل يقبل الحبّ شريكاً
غيرَ من في قلبه طفلٌ صغير؟
غادِرْ إذن هذا المكان فلستَ منّي في الحياة
ولستُ منك
فلا تغيْر
ما كنت بين يديكَ دميةَ رحلةٍ
أو كوبَ ماءٍ
أو لخلوتِكَ سمير
كي تقتربْ
أو تبتعدْ..
ترحلْ..
تعودُ بحسْبِ ما يُملي عليك هواكْ
فتستكينُ و تستطير
وكأنني شيءٌ تساومه
امتلاكاً
أو ليومٍ تستعير!!
وتعود يوماً
بعد إدراك الخسارة تنحني
ندِماً كسيرْ
تستجدي صفحاً
منّي
مغفرةً!!
وإشفاقي تثير.
إعلم بأني لستُ غافرةً
ذنوباً
مِن سجلِّكْ
لو سجدتَ ليَ الدهور
وأضأت ليْ الشّمعَ
بعشر أصابعِكْ
فلقد نسيتُكْ
قبل أن أنسى ذنوبَكْ
أيها الشخص الذي
أنهتْكَ أمراضُ الغرور
وأظلُّ في فلكي
حكايةً نجمِ حبٍّ
خالدٍ
مهما تدورُ بيْ الدنيا
تدورْ.
رانية مرجية

السبت، 11 يوليو 2009

ساقطةٌ قدّيسةٌ!—بقلم رانية مرجية


كانتْ طفلةً لم تتجاوزِ الخامسةَ عشر ربيعًا، عندما أرغمَها والدُها على الزّواجِ مِن كهلٍ يكبُرُها بستّينَ عامًا، بعدَ أن خسِرَها ابنةً وإنسانةً بسبب رهانٍ على مائدةِ القمارِ والميسر، ليدفعَ بها قربانًا لعريسٍ مجهولِ الماهيّةِ والأفق.في ليلةِ دخلتِها الأولى الّتي طالما راودتْها أحلامُها برفيقِ العمرِ وحبيبِ الدّربِ، بإضاءةِ شموعِ غرفتِها بكلِّ ألوانِ الطّيفِ الجميلِ، انقلبتِ الأحلامُ لكوابيسَ، عندما انقضَّ عليها الذّئبُ المفترسُ، ليمارسَ شذوذَهُ بها، متّسِمًا بالسّاديّةِ وجنونِ القسوةِ، كانَ يتلذّذُ بتعذيبِها قبلَ أيّةِ خلوةٍ جنسيّةٍ، عندَ كلّ إفراغٍ لكبْتِهِ الجنونيِّ، كانَ يحرقُ فخْذَها بقضيبٍ محمّى إلى أنْ يُغمى عليها.كانتْ دائمةَ الشّرودِ والحزنِ والاضطرابِ، وكثيرًا ما راودَتْها فكرةُ الانتحارِ للتّخلّصِ مِن جحيمِها الّذي لا يُطاقُ.

لم تُجدِها توسُّلاتها ودموعَها الّتي تذرفُها ليلَ نهار، ولم يشفعْ لها جمالُها الرّبّانيُّ، فزوجُها كانَ مريضًا وعقدتُهُ السّاديّة.ظلمٌ مظلمٌ مورسَ عليها، حينَ حرمَها ذووها مِن الدّراسةِ لكونِها أنثى. كيفَ تجيدُ فكَّ الحروفِ، وهي من لُقّنَتْ تفسيرًا مشبوهًا وتأويلاً خاطئًا منذُ صِغَرِها أنّها ناقصةُ عقلٍ ودينٍ، وأنّ الرّجالَ قوّامونَ على النّساء، وأنّ الرّجلَ يفوقُ المرأةَ ذكاءً بملايينِ الدّرجات، وأنّ أصلَ شرورِ العالمِ سببُها حواء؟ علّموها أنّ نصفَ الدّينِ هو الزّواجُ، وأنّ دورَ المرأةِ يكمنُ في خدمةِ زوجِها، وطاعةِ أوامرِهِ دونَ أيِّ اعتراض. فهلْ يعقلُ أن تقولَ لأبيها لا، والمرأةُ الصّالحةُ تنصاعُ فقط، لأنّها ممنوعةٌ مِن الاعتراضِ وقولِ لا لأبيها أو أخيها أو زوجِها؟ ويلها المرأةُ لو تجرّأتْ وقالت لا، لَلعنتْها ملائكةُ السّماءِ وكانَ ذبْحُها حلالاً! كانتْ أمُّها امرأةً مغلوبةً على أمرِها، كانتْ مجرّدَ دميةٍ تُحرِّكُها أصابعُ وإشاراتُ ونظراتُ زوجِها، كانتْ سليبةً، أمَةً مستسلمةً، ومناقشةُ زوجِها مِن المُحرّماتِ بدهِيًّا! عاشتْ تجترُّ حياةَ ذلٍّ وهوانٍ، ليسَ لها إلاّ أمّها الّتي كانتْ سلواها وأقربَ النّاسِ إليها، رغمَ انعدامِ لغةِ الحوارِ بينَهما.

قضتْ مع زوجِها الهرمِ ثماني سنواتٍ إلى أن توفّاهَ الله، ظنّتِ المسكينةُ أنّها ستتمكّنُ أخيرًا منَ العيشِ بكرامةٍ، وهي تضعُ وزرَ هذا المتسلّطِ عليها قهرًا، إلاّ أنّها وجدتْ نفسَها بالشّارعِ. لم يتركْ لها زوجُها سقفًا يؤويها. لقد وهبَ البيتَ وجميعَ أرصدتِهِ بالبنكِ لأولادِهِ من زيجاتِهِ اللّواتي سبقنَها.ارتأتْ أن تعودَ إلى بيتِ والدِها، لكن أباها تغيّر، باتَ دميةً تُحرّكُها أوامرُ زوجتِهِ الجديدةِ الّتي لا تكبرُها إلاّ بحولٍ واحدٍ، قامَ والدُها بطرْدِها منَ البيتِ امتثالاً لأوامرِ زوجةٍ تخشى أنْ يقاسمَها أحدٌ ملكيّتَها الخاصّةَ، كانتْ بحاجةٍ لصدرٍ يضمُّ وحدتَها وغربتَها في محيطِها القريبِ، ليدٍ تمتدُّ لها تفتحُ أبوابَ مستقبلٍ، لم تعرفْ عن مراسيهِ إلاّ تمزُّقَ ذاتٍ بينَ ماضٍ قاهرٍ وأفقٍ مجهولٍ! عبثًا، تذكّرتْ أمَّها الّتي أنجبتْها والّتي توفّيتْ منذُ ثلاث سنوات، ولم تعرفْ عنها شيئًا إلاّ بعدَ أشهر.نعم، ولأنّها لا تُجيدُ أيَّةَ مهنةٍ ولا تملكُ إلاّ جسدًا ممشوقًا صارخًا، وجمالاً عربيًّا ربّانيًّا، وجدتْ نفسَها في الشّارعِ، تسقطُ في أحضانِ الرّذيلةِ بعدَ الغوايةِ والتّحرّشِ وانعدامِ الصّدرِ الحنونِ المحتضنِ، فاحترفتْ بيْعَ جسدِها، ومرّتْ سنةٌ وهي تمارسُ مهنةً استطاعتْ مِن خلالِها ادّخارَ مبلغٍ لا بأسَ بهِ من المالِ، حيثُ ساعدَتْها إحدى زبوناتِها المجنونة والمتيّمة بها مِن السّحاقيّات، بشراءِ بيتٍ كبيرٍ يُطلُّ على شاطئِ البحرِ، ليجعلاهُ وكْرَ حبٍّ خاصٍّ بهنِّ

لم تمانعْ أبدًا، وأغلبُ زبائنِها كنَّ من السّحاقيّاتِ اللّواتي أغدقنَ عليها الحبَّ والحنانَ قبلَ الجنسِ والمالِ.عرفتْ في بيتِها الجديدِ لأوّلِ مرّةٍ طعمَ الرّاحةِ، فقد توقّفتْ أخيرًا عن بيعِ جسدِها، وبدأتْ تفكّرُ في ماضيها وحاضرِها، ولأوّلِ مرّةٍ تفكّرُ في طرحِ السّؤالِ الّذي غيّبتْهُ قسوةُ محيطِها الّذي لم يعترفْ لها بالحقِّ في وضعِهِ! الله؟ من هوَ؟ أينَ هو؟قرّرتْ أن تبحثَ عنهُ، فاليومَ قرارُها بيدِها ولا وصايةَ لأحدٍ عليها! بادرتْ وقصدتْ أحدَ الأماكنِ المقدّسةِ لتصلّي، وبعد تردُّدِها لمرّاتٍ، لم تشعرْ بحرَجٍ أو تردُّدٍ بأن تسألَ أحدَ الشّيوخِ عن الخالقِ، وأسئلةً كثيرةً خاصّةً بها وبوضعِها، اعتادتِ التّردّدَ على هذا الشّيخِ الوقورِ الّذي رسّخَ في ذهنِها مبادئَ حبِّ اللهِ وتعاليمِهِ الدّينيّةِ والدّنيويّةِ، فقرّرتْ أخيرًا أن تُفاتحَهُ بقصّةِ حياتِها وما وصلتْ إليهِ، لاسيّما وأنّها تأكّدتْ مِن طيبةِ خُلقِهِ الكبيرِ، حينَ استشعرتْ اختلافَهُ عن كلِّ مَن عرفتْهم وصادفَتْهم، صارحتْهُ بماضيها وحاضرِها، لتضعَ بينَ يديهِ بعدَ اللهِ توبتَها، والسّيرَ على الصّراطِ المستقيم!شدَّ الشّيخُ الجليلُ على يدِها وباركَ مبادرتَها وشجّعَها، وساعدَها على إيجادِ عملٍ شريفٍ بعدَ أن تركتْ وراءَها كلَّ ماضيها المادّيِّ والمعنويِّ، وكانَ يتفقّدُها بينَ الفينةِ والأخرى، وكان انقلابٌ كلّيٌّ لدرجةِ البدايةِ من الصّفرِ، فبدأتْ تتعلّمُ في مدرسةٍ للكبارِ، تقرأُ الكثيرَ منَ علومِ الدّينِ وعلمِ النّفسِ والاجتماعِ والعلومِ الإنسانيّةِ، فعرفتْ أنَّ اللهَ محبّةٌ.لقد ظهرَ لها جليًّا وتيقّنتْ، أنّ تحجُّرَ أفكارِ والديْها وزوجِها والمجتمعِ الجاهلِ، هي أسبابُ حرمانِها مِن حقوقِها الّتي سُلبتْ منها، ومرّتْ خمسُ سنواتٍ وهي تدرسُ وتقرأُ وتقارنُ وتتعلّمُ وتصلي.وتشاءُ الأقدارُ إسماعَها صوتًا يدعوها لمساعدةِ فتياتٍ ضللنَ الطّريقَ، ووقعنَ في مآزقِ الحياةِ، حاولتْ بكلِّ ما أوتيَتْ مِن قوّةٍ أنْ تقفَ إلى جانبهنَّ، حتّى يتعدّيْنَ الأزمةَ، دعتهنَّ وهنَّ كنَّ صديقاتْ لها فيما مضى، بدأتْ بنشرِ دعوةِ محبّةِ اللهِ وأهمّيّةِ التّوبةِ والحياةِ بكرامة.نعم، بشّرتهنَّ بالخلاصِ، ونجحتْ في تغييرِ مجرى حياتِهنَّ ببثِّ الإيمانِ والتّقوى في قلوبهنَّ، بالكلمةِ الطّيّبةِ والتّشجيعِ، وتحوّلَ بيتُها مِن وكْرٍ لممارسةِ الشّذوذِ إلى بيتٍ وملجأ، تجتمعُ فيهِ النّساءُ للصّلاةِ وتعلّمِ الخياطةِ والكتابةِ والقراءةِ وحقوقِها الإنسانيّةِ.__________________